ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة.
قوله تعالى :﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ﴾ هذا جواب الشرط كما تقدم، والكثير في لغة العرب :" اتَّقَى يَتَّقِي " على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ، ولغى " تميم " و " أسد " تَقَى يَتْقِي : مثل : رَمَى يَرْمِي، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة ؛ حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة ؛ وأنشدوا :[الوافر] ٢٩٧ - تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي
رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا
وقال آخر :[الطويل] ٢٩٨ -......................
تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
قوله تعالى :﴿النَّارَ﴾ مفعول به، و " الَّتي " صفتها، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة، كقوله :[الكامل] ٢٩٩ - شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا
بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوعَةٍ وَغَرَامِ
وقال آخر :[الوافر] ٣٠٠ - فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي
أَرَاهَا لا تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ
٤٣٩
و " وقودها النَّاس والحجارة " جملة من مبتدأ وخبر، صلة وعائد، والألف واللام في " النار " للعهد.
فإن قيل : الصِّلة مقررة، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟ والجواب : لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى :﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى ﴾ [النجم : ١٠] وقوله :﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم : ١٦] وقوله :﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ﴾ [النجم : ٥٤] وقال :﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه : ٧٨] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم - وهي مدينة بالاتفاق - وقد غلط الزمخشري في ذلك.
والمشهور فتح واو الوقود، وهو اسم ما يوقد به.
وقيل : هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور، ولم يجيء مصدر على " فَعُول " غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه.
وزاد الكسائي : الوَزُوع.
وفرئ شاذًّا في سورة " ق " ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق : ٣٨] فتصير سبعة، وهناك ذكرت هذه القراءة، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم، وبالضم مصدر.
وقرأ عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر.
وقال ابن عطية : وقد حكيا في المصدر.
انتهى.
فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل، وهو إما المُبَالغة أي : جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب، وإمَّا حذف مضاف، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها، وإمّا من الثاني أي : يوقدها إحراق الناس، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامه.
والهاء في " الحِجَارة " لتأنيث الجمع.
فَصْلٌ في تثنية " الَّتي " وجَمْعِهِ وفي تثنية " الّتي " بحذف النون، و " اللَّتانّ " بتشديد النون، وفي جمعها خَمْسُ
٤٤٠
لُغَاتٍ :" اللاَّتي " - وهي لغة القرآن - و " اللاَّتِ " - بكسر التاء بلا ياء - و " اللَّوَاتي "، و " اللَّوَاتِ " - بلا ياء، وأنشد أبو عُبَيْدة :[الرجز] ٣٠١ - مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ
زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٢٩
و " اللَّوَاءِ " بإسقاط " التاء " حكاه الجوهريُّ.
وزاد ابن الشَّجَرِيَّ :" اللاَّئي " بالهمز وإثبات " الياء "، و " اللاءِ " بكسر " الهمزة " وحذف " الياء " و " اللاّ " بحذف الهمزة، فإن جمعت الجمع، قلتَ في " اللاتي " :" اللواتي " وفي " اللائي " :" اللوائي ".
قال الجوهريُّ : وتصغير " الَّتي " " اللَّتَيَّا " بالفتح والتشديد، قال الراجز :[الرجز] ٣٠٢ - بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي
إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ
وبعض الشعراء أدخل على " الَّتي " حرْفَ النداء، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا :" يَا أَللَّه " وحده، فكأنه شبهها به ؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها، وقال :[الوافر] ٣٠٣ - مِنْ أجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي
وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي
ويقال :" وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيِّا وَالَّتي " وهما اسمان من أسماء الداهِيَة.
فَصْلٌ قال ابن الخطيب : انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ، فهلاًّ جيء بـ " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك ؟ والجواب : من وجهين : أحدهما : أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة ؛ لاتكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.
والثَّاني : أنه تهكّم بهم كما يقزل الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه :" إن غلبتك لم أُبْقِ عليك "، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به.
فإن قيل : ما معنى
٤٤١