قال ابن الخطيبِ :" وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ؟ وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية [فقيل : التوراة بالعبرانية نور، ومعناه الشريفة، والإنجيل بالسريانية " إنكليون "، ومعناه الإكليل] [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب ؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث " ].
قوله :" مِن قَبْلُ " متعلق بـ " أنْزَلَ " والمضاف إليه الظرف محذوف ؛ لفَهْم المعنى، تقديره : من قبلك، أو من قبل الكتاب، و " الْكِتَاب " غلب على القرآن، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به، [أي] المكتوب.
وذكر المنزل عليه في قوله :﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ﴾، ولم يذكره في قوله :﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ﴾ تشريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم.
قوله :" هُدًى " فيه وجهان :
٢٠
أحدهما : أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه " أنْزَلَ " أي : أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.
فإن قيل : لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة : ٢]، ولم يصفه هنا بذلك ؟ قيل : إنما وصفه - هناك - بذلك ؛ [لأن] المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال : إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى.
ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - بـ " نَزَّلَ " و " أنْزَلَ " معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره : نزل عليك الكتاب له أي : للهدى، فحذفه.
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول : أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.
والثاني : أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل.
ولم يُثَنَّ ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.
وقيل : إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.
وقيل : حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله ؛ لدلالة هذا عليه.
وقال بعضهم : تَمَّ الكلام عند قوله تعالى :﴿مِنْ قَبْلُ﴾ فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله :﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ أي : وأنزل الفرقان هدًى للناس.
وهذا التقدير غير صحيح ؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع ؛ إذ لو قلت : قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.
قوله :" لِلناسِ " يحتمل أن يتعلق بنفس " هُدًى " لأن هذه المادة تتعدى باللام، كقوله تعالى :﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء : ٩] وأن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة لـ " هُدًى ".
٢١


الصفحة التالية
Icon