يكون " كَيْفَ " معمولة " يُصَوِّرُكُمْ " ؛ لأن لها صدرَ الكلام، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين : إما حرف الجر نحو بمن تمر ؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك ؟ الثاني : أن يكون " كَيْفَ " ظرفاً لـ " يَشَاءُ " والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى، تقديره : يصوركم على مشيئته، أي : مُريداً.
الثالث : كذلك إلا أنه حال من مفعول " يُصَوِّرُكُمْ " تقديره : يصوركم متقلبين على مشيئته.
ذكر الوجهين أبو البقاء، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله : يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك.
الرابع : أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي، وفي قوله : الجملة في موضع المصدر تسامح ؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر، ومراده أن " كَيْفَ " دالة على ذلك، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة.
فصل في معنى الآية معنى :﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ ذكراً أو أنثى، أبيضَ أو أسودَ، حسناً أو قبيحاً، تاماً أو ناقصاً، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران ؛ حيث قالوا : عيسى ولد الله وكان يقول : كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم ؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد ؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال :﴿لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ و " الْعَزِيزُ " إشارة إلى كمال القدرةِ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء، و " الْحَكِيمُ " إشارة إلى كمالِ العلم، يعني : أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود : حدثنا رسول الله ﷺ - وهو الصادقُ المصدوقُ - " إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأجَلِهِ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لاَ إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ
٢٧
فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا ".
وعن النبيِّ ﷺ قال :" يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُول : أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى ؟ فَيُكْتَبَان، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ، وَأثَرهُ، وَأجَلُهُ، ورِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ ".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٣
وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه، و التمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم، وهو القائم بمصالح الخلق، والمصالح قسمان : جسمانية، وروحانية، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل، وهو المراد بقوله :﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ﴾ [آل عمران : ٦] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ، وهو المراد بقوله :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ قوله :﴿مِنْهُ آيَاتٌ﴾ يجوز أن تكون " آيَاتٌ " رَفْعاً بالابتداء، والجار خبره، وفي الجملة على هذا وجهانِ : أحدهما : أنها مستأنفة.
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من " الْكِتَابِ " أي : هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال، أي : منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ.
ويجوز أن يكون " منه " هو الحال - وحده - وآيات : رفع [به] - على الفاعلية.
٢٨