آمَنَّا بِهِ " في محل نصب بالقول، و " كُلٌّ " مبتدأ، أي : كله، والجار بعده خبره، والجملة نصب بالقول أيضاً.
فإن قيل : ما الفائدة في لفظ " عِنْدِ " ولو قال : كل من ربنا لحصل المقصود ؟ فالجوابُ : أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد.
فإن قيل : لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من " كُلٌّ " ؟ فالجوابُ : لأن دلالته على المضاف قوية، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ.
قوله :﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ مَدْحٌ للذين قالوا : آمنا، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ : بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلم -.
وقيل : الراسخونَ : علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى :﴿لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُم﴾ [النساء : ١٦٢] يعني الدارسين علم التوراة، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال : العالمُ العاملُ بما عَلِم، المتَّبع له.
وقيل : الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ : التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، و المجاهدة بينه وبين نفسه.
" وَمَا يذكَّرُ " يتَّعظ بما في القرآن ﴿إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ ذوو العقول.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨
اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون :" آمنا به "، حكى أنهم
٤١
يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون ؛ لدلالة الأول عليه، كما في قوله :﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا﴾ [آل عمران : ١٩١].
قال القرطبيُّ : ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمدُ.
قوله :" لا تُزغْ " العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ، من أزاغ يزيغ، و " قُلُوبَنَا " مفعول به، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح :" لا تَزغْ قُلُوبُنَا " - بفتح التاء، ورفع " قُلُوبُنَا "، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره، والنهي في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي : لا تزغ قلوبنا فتزيغ، فهو من باب " لا أرَينَّكَ ههُنَا ".
وقول النابغة :[البسيط] ١٣٢٩ - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا
..........................
قوله :﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾، " بَعْدَ " منصوب بـ " لا تُزِغْ "، و " إذْ " هنا خرجت عن الظرفية ؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل، وإذا خرجت عن الظرفيةِ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله ﴿هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ [المائدة : ١١٩] و ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ﴾ [الانفطار : ١٩] - قراءة من رفع " يومُ " في الموضعين -.
وقول الآخر :[الطويل] ١٣٣٠ -.............................
عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ
وقوله :[الطويل] ١٣٣١ - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ
.....................
٤٢
وقوله :[الطويل] ١٣٣٢ - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا
..................
وقوله :[الطويل] ١٣٣٣ - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ
.......................
كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب بـ " لَيْت "، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها.
فصل هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى، قال أهل السنة : ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى.
فإن كانت تلك الداعية [داعية] الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والرَّيْن، والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.
وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان، فهي التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله ﷺ يقول :" قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ، إنْ شَاءَ أقامه، وإن شاء أزاغَهُ "، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان، وكان ﷺ يقول :" اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب
٤٣


الصفحة التالية
Icon