واللغةُ المشهورةُ بناؤها ؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ، وامتناع الإخبار بها، بخلاف " عند "، و " لدن " فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً ؛ إذ يكون فضلةً، وعُمدةً، وغايةً وغير غاية، بخلاف " لَدُن ".
وقال بعضهم :" علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة، ومختصةً بها، بخلاف " عند " فإنها لا تدل على الملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك، فلم يُوضَع، كما قالوا في اسم الإشارةِ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان بـ " لَدُنْ " المفتوحة اللام، المضمومة الدال، الواقع آخرُها نونٌ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب، وفيها عشر لغاتٍ : أشهرها الأولى، ولدَن، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون -، ولَدْ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون.
قوله :﴿أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ " أنت " يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون ضميرَ الفصل، وأن يكون تأكيداً لاسم " إنَّ ".
فصل اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم.
٤٦
وقال " رحمة " ؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله :﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.
وقوله :﴿أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودِك ورحمتك ؛ فإنك أنت الوهاب.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١
قرأ أبو حاتم ﴿جَامِعُ النَّاسِ﴾ بالتنوين والنصب - و " لِيَوْمٍ " اللام للعلة، أي : لجزاءِ يوم، وقيل : هي بمعنى " في "، ولم يذكر المجموع لأجله، و " لا رَيْبَ " صفة لـ " يَوْم "، أي : لا شك فيه، فالضمير في " فِيهِ " عائد عليه، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه بـ " جَامِعُ "، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى، أو على العَرْض.
قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر ؛ دلالةً على تعظيمه، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى، فلا التفاتَ حينئذٍ.
و " الميعاد " مصدر، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها كميقات.
فإن قيل : لم قالوا - في هذه الآية - : إن اللهَ لا يخلف الميعادَ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد ؟ فالجوابُ : أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر ؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله، ويتجاوز عن سيئاته، فليسَ مقام الهيبةِ، فلا جرم قال :﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران : ١٩٤].
فصل اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة ؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
فصل اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة ؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق، قال : لأن الوعيدَ داخل


٤٧


الصفحة التالية
Icon