تحت لفظ الوعد ؛ لقوله تعالى :﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ [الأعراف : ٤٤]، والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد.
والجواب : لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً، بل ذلك مشروط بعدم العفو، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه توعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، ويكون قوله :﴿فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ كقوله :﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران : ٢١] وقوله :﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان : ٤٩]، فيكون من باب التهكمِ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى.
وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب ؛ لأنهم يمدحون بذلك، قال :[الطويل] ١٣٤٣ - إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ
وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧
وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد : قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر ؟ فقال : أقول : إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعْجَمُ، لا أقول : أعجم اللسان، ولكن أعجمُ القلب ؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً، وعن الإيعاد كَرَمًا، وأنشد :[الطويل] ١٣٤٤ - وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ
لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فقال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا، فقال له عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك.
قال ابن الخطبيبِ :" وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قِسْت الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره، فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق.
٤٨
وأما قولك : لو لم يفعلْ لصار كاذباً، أو مكذب نفسه.
فالجوابُ : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى ".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧
لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان : أحدهما : أن المراد بهم وفد نجران ؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله.
الثاني : أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ.
قوله :﴿لَن تُغْنِيَ﴾ العامة على " تُغْنِي " بالتاء من فوق ؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ " تُغْنِي " ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ.
قوله :﴿مِّنَ اللَّهِ﴾ في " مِن " هذه أربعة أوجه : أحدها : أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي : من عذاب اله وجزائه.
الثاني : أنها بمعنى " عند " قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى :﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش : ٤]، أي : عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين.
الثالث : أنها بمعنى بدل.
قال الزمخشري : قوله :﴿مِّنَ اللَّهِ﴾ مثل قوله :﴿إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس : ٣٦]، والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي : بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] :" ولا ينفع ذا الجد منك الجد "، أي : لا
٤٩
ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي : بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى :﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾ [سبأ : ٣٧]، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه ؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ.
ومنه قوله :[الرجز] ١٣٤٥ - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا
وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
وقول الآخر :[الكامل] ١٣٤٦ - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً
ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا


الصفحة التالية
Icon