وثانيها : أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ، والله تعالى نَدَب إليها، فكان تزييناً لها، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر.
قال صاحب بن عبَّادٍ :" شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ " وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة، وتحمل ما في ذلك من المشقة ك ان أكثرَ ثواباً.
وثالثها : قوله تعالى :﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ [البقرة : ٢٩]، وقوله :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف : ٣٢]، وقوله :﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ [الكهف : ٧] وقال :﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف : ٣١]، وقال :﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾ [البقرة : ٢٢]، وقال :﴿كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ [البقرة : ١٦٨]، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى.
القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي - : وهو التفصيل، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان، وإن كان واجباً، أو مندوباً، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب، ولا في تركه عقابٌ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره.
ويُبَيِّنَ التزيين فيه، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان ؟ وقرأ مجاهد :" زَيَّنَ " مبنيًّا للفاعل، و " حُبَّ " مفعول به نصاً، والفاعل إما ضمير الله تعالى ؛ المتقدم ذكره في قوله :﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [آل عمران : ١٣]، وإما ضمير الشيطان، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه، وأضافَ المصدر لمفعوله في ﴿حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾.
والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة، كقوله :[الطويل] ١٣٥٨ - وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا
وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٧٠
بتسكين الفاء.
والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول، أي : المشتهيات، فهو من
٧١
باب : رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً.
والشهوة : مَيْل النفس، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ -.
قالت امرأة من بني نصر بن معاوية :[الطويل] ١٣٥٩ - فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ
بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ
قال النحويون : لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ : قرية وقُرًى، ونَزْوَة ونُزًى، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى.
واستدرك أبو حيّان :" واستدركت - أنا - شُهًى، وأنشد البيت ".
وقال الراغب :" زززز وقد يُسَمَّى المشتهى، شهوةً، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء : شهوة، وقوله تعالى :﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ يحتمل الشهوتين ".
قال الزمخشريُّ : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ، محروصاً على الاستمتاع بها.
الثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها.
فصل وَجهُ النظم : أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه : إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك ؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ، والاستظهارَ والسلاحَ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة، باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.
فصل قال المتكلمون : دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ ؛ لأنه أضافهُ إليها، والمضاف غيرُ المضافِ إليه، والشهوة فعل الله تعالى، والمحبة فعل العبد.
قالت الحكماءُ : الإنسان قد يحب شيئاً، ولكنه يحب ألا يحبه، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات، لكنه يحب ألا يحبه، وأما من أحب شيئاً، وأحب أن يحبه،
٧٢