فذلك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير، فهو كمال السعادة، كقول سليمان :﴿إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ [ص : ٣٢]، ومعناه : أحب الخير، وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية ؛ فإن قوله :﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَات﴾ يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة : أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات.
ثانيها : أنه يحب شهوته لها.
ثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة.
ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس، ولفظ " النَّاس " عام، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل - أيضاً - يدل عليه ؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب، ومطلوب لذاته، والمنافع قسمان : جسماني، وروحاني، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل.
قوله تعالى :﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ في محل نَصْب على الحال من الشهوات، والتقدير : حال كون الشهوات من كذا وكذا، فهي مفسرة لها في المعنى.
ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس، لقول الزمخشريِّ :" ثم يفسره بهذه الأجناس ".
كقوله :﴿فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ﴾ [الحج : ٣٠]، والمعنى : فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ.
وقدم النساءَ على الكل، قال القرطبيُّ : لكثرة تشوُّق النفوس إليهن ؛ لأنهن حبائلُ الشيطان، وفتنة الرجالِ، قال ﷺ :" مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ " أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ منهن أكثرُ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ، ولذلك قال
٧٣
تعالى :﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا ااْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم : ٢١]، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر ؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً ؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان، والبنين : جمع ابن، قال نوح :﴿رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود : ٤٥] ويًصَغَّر " ابن " على بُنَيّ، قال لقمان :﴿يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ [لقمان : ١٣]، وقال نوح :﴿يا بُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا﴾ [هود : ٤٢].
قوله تعالى :﴿وَالْقَنَاطِيرِ﴾ هي جمع قِنْطار، وفي نونه قولان : أحدهما : أنها أصلية، وأن وَزْنَه فِعْلاَل، كحِمْلاق، وقِرْطاس.
والثاني : أنها زائدة، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس، وهو الجمل الشديد، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال ؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ، وكثرة التقلُّب.
وقال الزَّجَّاج : هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة ؛ لإحْكام عقدها.
حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : القنطار وزن لا يُحَدُّ.
قال ابن الخطيب :" وهذا هو الصحيح ".
وقال الربيع بن أنس : القنطار : المال الكثير بعضه على بعض.
وقال القرطبي :" والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار ".
وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي ﷺ - قال :" القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية ".
وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقالٍ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم، وبه قال الحسن.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :" القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ ".
٧٤


الصفحة التالية
Icon