فهذا دالٌ دَِلالةً بيّنَةً على أن الاستقصاء والتحليل دعامتان رئيسيتان في منهج التفكير البيانيّ، فالإجمال، والاكتفاء بظاهر البيان مما يتحرز منه التفكير البياني، ولذا يُذَكِّرُ به ‹‹عبد القاهر›› في مواضع عديدة من كتابه؛ ليكون المتدبر والمتذوق عغلى ذكر من أهميته.
يقول:‹‹ واعلم أنك لا تشفي الغلة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملا إلى العلم به مفصلا، وحتَّى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتَّى تكونَ كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ومجرى عروق الشجر الذي هو منه ›› (١)
تأمل قوله:‹‹ لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه....›› يتبيّن لك عظيم أهمية الاستقصاء في التحليل البياني ليقف المرء على ما هو مكنون في البيان من خصال البلاغة والبراعة والبيان.
ولهذا تجد الإمام يهديك في مفاتح " الدلائل" إلى نهج في التتبع والتقصي، وهو يبين لك أن فضائل الكلم من علائقها ومواقعها:
‹‹ وهل تشكُّ إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: ٤٤)
فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقربها إلى آخرها وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها.

(١) - السابق: ٢٦٠


الصفحة التالية
Icon