‹‹ اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثُمَّ جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت، واهتززت، واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مِمَّ كانت، وعند ماذا ظهرت، فإنَّك ترى عيانا أن الذي قلتُ لك كما قلتُ.
اعمد إلى قول البحتري:
بَلَوْنا ضَرائبَ مَن قَد نَرَى * فما إن رأينا لفتحٍ ضَريبَا
هُوَ المَرْء أبدت له الحادثات * عزْمًا وَشِيكًا ورأيًا صَلِيبا
تنَقَّل فِي خُلُقَي سُؤدَدٍ * سَماحًا مُرَجَّى وبَأسًا مَهِيبَا
فكالسّيفِ إنْ جِئتَه صارِخًا * وكالبَحْرِ إنْ جِئتَه مُسْتَثيبَا
فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك، فعُد، فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر، وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كلِّه، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة.
أفلا ترى أنَّ أول شيء يروقك منها قوله:‹‹ هو المرء أبدت له الحادثات ››، ثم قوله:‹‹ تنقل في خلقي سؤدد ›› بتنكير ‹‹السؤدد››، وإضافة ‹‹الخلقين ›› إليه، ثم قوله: «فكالسيف» وعطفه بـ" الفاء" مع حذفه المبتدأ؛ لأنَّ المعنى لا محالة: فهو كالسيف، ثم تكريره "الكاف " في قوله: «وكالبحر»، ثُمَّ أنْ قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه، ثم أنْ أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله: «صارخا» هناك و «مستثيبا» هاهنا؟
لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فأعرف ذلك.
وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى، فانظر إلى قول " إبراهيم بن العباس ":