«وأعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذى نراه بأبصارنا، فلمَّا رأينا البيْنونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبيُّن إنسان من إنسان، وفرس من فرس بخصوصية تكون فى صورة هذا لا تكون فى صورة ذاك، وكذلك كان الأمر فى المصنوعات، فكان تبيُّن خاتم من خاتم وسِوارٍ من سِوار بذلك، ثُمَّ وجدنا بين المعنى فى أحد البيتين وبينه فى الآخر بينونةً فى عقولنا وفَرْقًا عبَّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى فى هذا صورة غير صورته فى تلك.
وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن إبتدأناه، فينكره منكِرٌ بل هو مستعمل مشهور فى كلام العلماء، ويكفيك قول " الجاحظ ": «وإنَّما الشعر صياغة وضرب من التصوير.» (١)
فالتشبيه والمجاز والكناية إنَّما هى من أنماط التصوير وليست هى التصوير كلّه فى عرف علمائنا الأقدمين وأن تكن أصولاً كبيرة فى التصوير «كأنَّ جُلَّ محاسن الكلام أن لم نقل: كلها- متفرعة عنها وراجعة اليها وكأنها أقطاب تدور عليها المعانى فى متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها.» (٢)
والمتأخرون من علماء البلاغة حين خصوا هذه الأنماط التصويرية الثلاثة: (التشبيه والمجاز والكناية) باسم علم البيان لم يكن ذلك منهم إختصاصاً لهذه الثلاثة بأنها عِلْمُ تصوير المعنى بل بيان أنماط دلالة الكلام على معناه وضوحا وخفاءً؛ لأنَّ علم البيان عندهم ليس علم تصوير المعانى بل البلاغة كلّها علمُ تصوير المعانى، والبيان منها علم وجوه دلالة الصورة على المعنى وضوحا وخفاءً.
وآية ذلك تعريفهم علم البيان بأنَّه: علمُ يعرفُ به منهجُ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى تصويره من حيث وضوح الدلالة عليه وخفاؤها
(٢) - أسرار البلاغة: ٢٧