وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماءً، ثُمّ يظهر أنّه على خلاف ما قدَّر لكان بليغًا.
وأبلغ منه لفظ القرأن؛ لأنَّ الظمآن أشدّ حرصًا عليه وتعلّقَ قلبٍ به، ثُمَّ بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في النَّار – نعوذ بالله من هذه الحال
وتشبيه أعمال الكفار بالسَّراب من حسن التشبيه، فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم
وعذوبة اللفظ
وكثرة الفائدة
وصحة الدلالة» (١)
الرُّمَّانيّ كما ترى عُني أولاً بِلَفْتِكَ إلى المقصد المَرْمِيّ بالتشبيه إليه لتعرفَ موقعه في طرفي التشبيه، وهي معرفة تبيّن لك منهاج الدلالة، ومنهاج اختيار صورة الطرفين أيضًا، فأفادك أنَّ المشبّه، والمشبه به قد اجتمعا، لم يجمعهما جامع قَسْرًا بل تعارفا، فاجتمعا، وهو يُحرِّر لك مناط الاجتماع: بطلان المتوهّم، وهذه كلمة تبين لك امتلاء النفس بما بطل، وتبيّن لك عظيم جهالة من يملأُ نفسه بمثل هذا، ولو أنّه لم يكن مفتقرًا إليه لكان له في أن يملأها بذلك ما يغفر له، ولكنّه يبيِّن لك أنَّه توهّم باطلا، وهو شديد الحاجة وعظيم الفاقة. فكشف لك بهذه الكلمات القليلة مبلغ ما هو آخذ بالنفس حينذاك.
وانظر كيف أنه أبرز أثرين: الشدة والعظم.
في الشدّة نفوذ وحركة رأسية للأثر، وفي العِظَم إحاطة وحركة أفقية له، فإن العظيم ما أحاط بالأشياء وجمعها.
ثُم يترقّى بك إلى أفقٍ أعلى من النَّظر: يُقيمك أمام منزلين من البيان: بيان عارٍ من التصوير: (يحسبه الرائي ماءً... ) عبارة دَالة ولكنها لا تملأ النفس بالشعور بشديد الخيبة وعظيمه.

(١) - السابق: ٨١-٨٢


الصفحة التالية
Icon