" لقد كانت قصة موسى - عليه السلام - تبدأ غالبا فى السور الآخرى لا من حلقة الميلاد حيث يقف الإيمان القوى فى وجه الطغيان الباغى ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان فى النهاية، فأمَّا هنا، فليس هذا المعنى هو المقصود، إنَّما المقصود أنَّ الشَّر حين يتمحَّضُ يحمل سبب هلاكه فى ذاته، والبغي حين يتمرد لايحتاج إلى من يدفعه من الشر، بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدَى عليهم، فتتقذهم، وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين.
فهذا هو الغرض من سوق القصة فى هذه السورة، ومن ثم عرضت من الحلقة التى تؤدى هذا الغرض، وتبرزه.
والقصة فى القرآن تخضع فى طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض، فهى أداه تربية للنفوس، ووسيله تقرير لمعانٍ وحقائق ومبادئ، وهى تتناسق فى هذا مع السياق الذى تعرض فيه، وتتعاون فى بناء القلوب وبناء الحقائق التى تعمر هذه القلوب" (١)
تبين لنا بهذا كيف أنَّ موقع كلِّ سورة ومقصدها الكلى هو الذى يكون معيارًا في تناسق معانيها واصطفاء ما يدرج فى سياق كل سورة مما يفرض على المتدبِّر أن يعيَ موقع كلِّ سورة من سور القرآن الكريم فى سياق المعنى الكليّ للقرآن. (٢)
وقد يكون ما هو ظاهر من السورة غيرَ بَيِّنِ الاعتلاق بما قبلها وما بعدها مِمَّا يجعل ادراك موقعها على مدرجة المعنى الكلى للقرآن الكريم إدراكًا ضعيفًا ولكنَّ التَّدبُّرَ والتَّدقيقَ يُذكى طاقات الاستبصار الرُّوحى لمعاقد المعنى فى السورة مع ما قبلها وما بعدها من السور على جادة المعنى القرآنيّ.
(٢) - هذا الذي بسطته هنا يَجْمُل بك أن تستصحب وعيه وعرفانه في الفصل الثاني القادم لأنَّه وثيق الاعتلاق به - أيضًا - من وجه آخر، واستحضارك له يغنينا عن تكلف إعادة الإشارة إليه هناك.