ومجمل الأمر فى هذا " أنَّ كلَّ سورة لها مقصدٌ واحدٌ يُدار عليه أوَّلُها وآخرُها، ويستدلُّ عليه فيها، فترتَّب المقدِّمات الدَّالة عليه على أتقن وجه وأبدع نهج، واذا كان فيها شئٌ يحتاج إلى دليلٍ استدلّ عليه، وهكذا فى دليل الدليل، وهلمَّ جرّا، فإذا وصل الأمرُ إلى غايتِه ختِمَ بما منْه ابتدأ، ثم انعطف الكلامُ وعاد النظر عليه على نهج آخر بديع، ومَرَّ فى غير الأوَّل منيع، فتكونُ السورة كالشجرة النَّضيرة العالية والدَّوحة البهيجة الأنيقة الحَالِية المُزَيَّنة بأنواع الزِّينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدُّر وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكلُّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السُّورة قد واصل أولها، كما لاحم انتهاؤها ما بعدها وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلُّ سورة دائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغُرِّ البديعة النظم العجيبة الضَّمِّ بِلِينِ تعاطف أفنائها، وحسن تواصُلِ ثمارِها وأفنانِها. (١)
فمن مقتضَيات هذا أنَّ " مَنْ حقَّقَ المقصودَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ عرف تناسبَ آياتها وقصصها وجميع أجزائها. (٢)
فالسُّورةُ فى تناسب جُملها وآياتِها ونجومِها ومَعاقِدِها تُشبه الشَّجرةَ ذات الأوراق والأغصان، والتى يسرى فيها كلِّها عصارة واحدة، فلا تختلف طعومها ولا رائحتها، فجميع ثمارها سواء، وجميع أغصائها وأوراقها سواء، هذه العصارة فى الشجرة هى المقصود والمغزى فى السورة وهى المبدأ المُهيمن على كل شئ فيها (٣)
(٢) - السابق
(٣) - قد يتسابق إلى قلبك حين تقرأ كلام البقاعي (ت: ٨٨٥) ما قاله النقاد المحدثون في هذا:
«في القصيدة وحدة مصدرها المبدأ الذي يصبغ عناصرها لون واحد، والذي ينساب في أطرافها جميعا كما تنساب العصارة الخضراء التي تغذي الشجرة جذرا وساقا وأغصانا وأوراق، ولهذا فنحن نطلب من القصيدة التي تتحقق فيها الوحدة أنْ ترتبط عناصرها جميعا كما يرتبط الجذر والساق والأغصان والأوراق، فيؤدي كلّ عنصر فيها وظيفته حقا غير منفصلة عن الوظيفة التي يقومُ بأدائها عنصرٌ آخر بحيثُ تسيرُ هذه الوظائفُ مجتمعةً في اتجاه واحد، وتؤدي إلى غاية واحدة هي الأثرُ الكُليُ الموحد الذي تولّده القصيدة في نفس القارئ ". ؟
- راجع: دراسات في الشعر والمسرح للدكتور مصطفى بدوي: ص٧- ط: ٢/ سنة ١٩٧٩، الهيئة المصرية العامة للكتاب، فنّ الشعر لإحسان عباس: ص: ١٩٦- ط: ٦ سنة ١٩٧٩- بيروت. وكتاب الخطيئة والتكفير لعبد الغذامي: ص ١١٦-ط: النادي الأدبي بجدة سنة١٤٠٥
وهذا المعنى تجده في غير قليل من كتب النقد الأدبي الحديث، لم أشأ أن أثقل عليك بتعدادها، فإذا مالقيك منها، فتذكر مقالة البقاعيّ، ولا تغرنَّك حداثة ما لقيك من مقالاتهم النقدية.