تحس أن القرآن جاء منه إحساسك بأن هذا الشىء أتى ص _٠٢٢
من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك، متجاوب مع فطرتك، صريح فى مكاشفتك بمالك وما عليك، متلطف فى إقناعك، فما تجد بدأ من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله. ولا تحسبن هذا الوصف متأثراً بمواريث التدين التى انتقلت إلينا من الأولين فإن الكفار أنفسهم ادركوا أن القرآن مباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدى سماعه. فقد روى أن الوليد بن المغيرة- وهو من زعماء الكفر فى مكه- جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم، واستمع الى ما يتلو من هذا القرآن فلما أنصت وتدبر، كأنما رق له قلبه، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال له: " يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك إياه، فإنك أتيت محمداً وملت الى دينه.. !! قال الوليد ـ مستنكراً عرض المال عليه ـ لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك، فيعلمون انك مكذب له وكاره. قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم منى بالشعر، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذى يقوله محمد شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وغضب أبو جهل لهذه الشهادة، فإن الصدق فى هذه القضية لا يعنيه، بل يؤذيه!! والعراك على الرياسة فى هذه البيئات يذهل عن شئون الكفر والإيمان. فليكن محمد صادقاً. وليكن كلامه وحيا. بيد أن المصلحة القبلية تقضى بكتمان أمره، وانتقاص شخصه. ولذلك عاد أبو جهل يلح على الوليد: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! فقال الوليد: دعنى أفكر. وفكر الوليد، ثم أحب أن يكون منطقياً مع نفسه فقال: هذا سحر!! ولعله يقصد بالسحر ما جاءت به قوى خفية، لا يعرف الناس عادة حقيقتها. و فى هذا الحوار نزل قوله عز وجل: ص _٠٢٣