فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها، محفوظة أشباحُها، معلومات أماكنها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان، لا لزوم عليه وإيجاب، ولذلك وصلَه بقوله :﴿الرحمن الرحيم﴾، أي : الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. " نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثنى بتوالي الإمداد ". كما في (الحِكَم). فاسمُه ﴿الرحمن﴾ يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها، واسمه ﴿الرحيم﴾ يقتضي تربيتَها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم ﴿الرحمان﴾ على أحد، ولم يَتَسَمَّ أحد به ؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه ﴿الرحيم﴾ فيجوز إطلاقه على غيره تعالى ؛ لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً.
أو : الرحمن في الدنيا والآخرة، والرحيم في الآخرة : لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النعم والرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة والهداية، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب، ودقائقُ النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم.
ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال :﴿ملك يوم الدين﴾ أي : المتصرف في عباده كيف شاء، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار..
٣٠