مبادئ حالِ العارفِ ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله :﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ...﴾ [يُونس : ٢٢]، ولم يقل (بكم) وقوله :﴿أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ...﴾ [فَاطِر : ٩]، أي : ولم يقل : فساقه... انظر تمام كلامه.
والالتفات هذا في قوله :﴿إياك نعبد﴾ ولم يقل : إياه نعبد ؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً.
قال الأقليشي : فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ ﷺ :" فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى : هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ " معناه : أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال :" فهذه بيني وبين عبدي ".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٣
قال ابن جُزَي : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك.
﴿الإشارة﴾ : لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته ؛
٣٥