لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :﴿إياك نعبد﴾ شريعة، و ﴿إياك نستعين﴾ حقيقة، و ﴿إياك نعبد﴾ إسلاماً، و ﴿إياك نستعين﴾ إحساناً، ﴿إياك نعبد﴾ عبادة، و ﴿إياك نستعين﴾ عبودية، ﴿إياك نعبد﴾ فَرْقٌ، ﴿إياك نسعتين﴾ جَمْعٌ. هـ.
وإن شئت قلت :﴿إياك نعبد﴾ لأهل العمل لله وهم المخلصون، و ﴿إياك نستعين﴾ لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الصمائر، قاله القشيري.
٣٦
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله :﴿إياك نعبد﴾، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله :﴿إياك نستعين﴾، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله :﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، وبالله التوفيق.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٣


الصفحة التالية
Icon