قلت : لمَّا رجع رسول الله ﷺ من غزوة بدر غالباً منصوراً بالغنائم والأسارى، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال لهم : يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا، فإنكم تعلمون أني رسول الله حقّاً، واحذوا أن يُنزل الله بكم من نقمته ما أنزل على قريش يوم بدر، فقالوا : يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت أغماراً لا علم له علم لهم بالحرب، لئن قاتلتنا لتعلَمنَّ أنَّا نحن الناس. فأنزل الله فيهم هذه الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿قل﴾ يا محمد ﴿للذين كفروا﴾ من بني إسرائيل، أو مطلقاً :﴿ستغلبون﴾ إن قاتلتم المسلمين، ﴿وتحشرون﴾ بعد الموت والهزيمة ﴿إلى جهنم وبئس المهاد﴾ ما مهدتم لأنفسكم من العذاب، وقد صدق وعده بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، فقد غُلِبوا أينما ثُقفوا، وحشروا إلى جهنم، إلا من أسلم منهم.
ثم ندبهم للاعتبار بما وقع من النصر للمسلمين يوم بدر فقال لهم :﴿قد كان لكم﴾ يا معشر اليهود، ﴿آية﴾ أي : عبرة ظاهرة، ودلالة على صدق ما أقول لكم : إنكم
٢٩٣
ستغلبون، ﴿في فئتين﴾ أي : جماعتين ﴿التقتا﴾ يوم بدر، وهم المسلمون، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر، والمشركون كانوا زهاء ألف، ﴿فئة تقاتل في سبيل الله﴾ وهم المؤمنون، ﴿وأخرى كافرة﴾، وهم المشركون، ﴿ترونهم مثليهم﴾ أي : ترون، يا معشر اليهود، الكفارَ مثلي عدد المسلمين رأي تحقيق، ومع ذلك أيدهم الله بالنصر والمدد حتى نصرهم على عدوهم، وكذلك يفعل بهم معكم.
والرؤية، على هذا، علمية. ومن قرأ (بالياء) يكون الضمير راجعاً للكفار، أي : يرى الكفارُ المسلمين مثليهم، وذلك بعد أن قللهم الله في أعينهم حتى اجترأوا عليهم، وتوجهوا إليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، مدداً من الله للمؤمنين.


الصفحة التالية
Icon