وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعاً من الشهوات، زَهَّدَ فيها فقال :﴿ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب﴾ قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه : وَسَمَ اللّهُ الدنيا بالوحشة ؛ ليكون أنس المريد بربه دونها، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون، وإلا الله مشتاقون. هـ.
وقد تعوّذ النبيّ ﷺ من شر فتنتها، غناها وفقرها. وأكثرُ القرآن مشتملٌ على ذمها، وتحذير الخلق منها، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها، ورغَّب في الآخرة، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع، وكيف لا - وهي عدوة الله ؛ لقطعها طريق الوصلة إليه، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه ؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وعدوة لأعدائه ؛ لأنها استدرجتهم بمكرها،
٢٩٦
واقتنصتهم بشبكتها، فوثقوا بها، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها، كفانا الله شرّها بمنِّه وكرمه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٤
قلت :﴿للذين﴾ : خبر، و ﴿جنات﴾ : مبتدأ، وهو استئناف لبيان الخيرية، والرضوان فيه لغتان : الضم والكسر، كالعدوان والطغيان، و ﴿الذين يقولون﴾ : بدل من ﴿الذين اتقوا﴾، أو خبر عن مضمر، أو منصوب على المدح، أو بدل من العباد، و ﴿الصابرين﴾ وما بعده : نعت الموصول.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿قل﴾ يا محمد : أأخبركم ﴿بخير﴾ من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم، وهو ﴿جنات تجري من﴾ تحت قصورها الأنهار ؛ من الماء واللبن والعسل والخمر، ﴿خالدين فيها﴾، لا كنعيم الدنيا الفاني، ﴿ولهم فيها أزواج﴾ من الحور العين، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات، ﴿ورضوان من الله﴾ الذي هو ﴿أكبر﴾ النعم.


الصفحة التالية
Icon