وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي ؛ فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي، ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعَام : ١٤٩]. فما ظلمتُهم ؛ لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتي اقتضيت الإنذار، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم، وتكون بي الأمن
٥٦
والرّهْب، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط.
الإشارة : إن الذين أنكروا وجود الخصوصية، جحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، بما سبق لهم في علم الملك القدير، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب، أم لم تنذرهم ؛ لعدم فتح الباب، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات، أو حلاوة الزهد والطاعات، أو تحرير المسائل والمشكلات، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب، فلا يبصرون إلا المحسوسات، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات، بخلاف قلوب العارفين، فإنها ترى من أسرار المعاني ما لا يُرى للناظرين، وفي ذلك يقول الشاعر :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٦
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ
تَرى ما لا يُرى للناظرينا
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي
تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا
وأجنحةٌ تَطِيرُ بغير ريشٍ
إلى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا