الإشارة : لا تحسبن الذي بذلوا مُهجهم، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها، وعكس مراداتها، في طلب معرفة الله، حتى ماتت نفوسهم، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم، حياة لا موت بعدها، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات، ولو ماتوا حسّاً، بل هم أحياء على الدوام، وفي ذلك يقول الشاعر :
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ
فهم عند ربهم يشاهدونه مدة بقائهم، يرزقون من ثمار المعارف وفواكه العلوم، فرحين بما أتحفهم الله به من القرب والسر المكتوم، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم
٤٠٠
في المرتبة ممن تعلق بهم وأنهم سيصلون إلى ما وصلوا إليه من معرفة الحي القيوم، فلا يلحقهم حينئذٍ خوف ولا حزن ولا هم ولا غم، لما سكن في قلبهم من خمرة محبة الحبيب، والقرب من القريب المجيب، وفي ذلك يقول ابن الفارض.
وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ
أقَامَتْ به الأفْرَاحُ، وارتَحلَ الهمُّ
يسبشرون بنعمة أدب العبودية، وفضل شهود أسرار عظمة الربوبية، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المحبين لطريق المخصوصين، فإن طريق محبة طريق القوم عناية، والتصديق بها ولاية، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما رجع أبو سفيان من غزوة أُحد، هو وأصحابه، حتى بلغوا الروحاء، ندم وهم بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فندب أصحابه للخروج في طلبه، وقال :" لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس "، فخرج ﷺ في سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي على ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم كي لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩٩
قلت :﴿الذين﴾ : مبتدأ، وجملة ﴿للذين أحسنوا﴾ : خبر، أو صفة للمؤمنين قبله، أو نصب على المدح.