فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه ؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل. والله تعالى أعلم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٤
قلت : البارىء هو : المقدر للأشياء والمظهر لها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين ﴿قال﴾ موسى ﴿لقومه﴾ لما رجع من الطور، ووجدهم قد عبدوا العجل :﴿يَا قَوْم إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنفُسَكُم﴾ وبخستموها ﴿باتخاذكم العجل﴾ إلاهكم، ﴿فَتُوبُوا إلَى﴾ خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه.
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة ﴿خير لكم﴾ عِندَ خالقكم، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية، فلما صعب عليكم القتل ؛ للشفقة على الأخ أو القريب، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي، فدعا موسى وهارون - عليهما السلام - بالكشف عنهم، فرفعت السحابة، وقد قُتل سبعون ألفاً، ففعلتم ذلك
٨٥
القتل، فتاب الحق تعالى عليكم، فقبل توبة مَن بقي منكم، وعفا عمت مات ؛ ﴿إنه هو التواب الرحيم﴾ أي : كثير التوفيق للتوبة، أو كثير قبولها، الرحيم بعباده المؤمنين.