﴿أينما تكونوا يدرككم الموت﴾ عند انقضاء آجالكم، ﴿ولو كنتم في بروج مشيدة﴾ عالية محصنة. فإن كان الموت لا بد منه ففي الجهاد أفضل، لأنه حياة لا موتَ بعده. قال الكلبي : نزلت في قوم من الصحابة، منهم : عبد الرحمن بن عوف، والمِقدادُ وقٌدامة بن مَظعون وغيرهم، كانوا يُؤذَونَ بمكة، ويستأذنون النبي ﷺ في القتال، فيقول
٧١
لهم : كفوا أيديكم حتى يُؤذن فيه لكم، فلما هاجروا إلى المدينة وأُمروا به، كرهه بعضهم كراهية الطبع البشري، فخطر ببالهم شيءٌ مما حكى الله عنهم. فلما كانوا في عين العناية ومحل القرب والهداية عوقبوا على تلك الخواطر، ولو كان غيرهم من أهل البُعد لسُومح له في ذلك، وقيل : نزلت في قوم من المؤمنين أُمروا بالجهاد فنافقوا من الجُبن، وتخلفوا عن الجهاد، وهذا أليق بما بعده من قوله :﴿إن تصبهم حسنة﴾. والله تعالى أعلم.
الإشارة : نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم، فإذا أُمِروا بذلك، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس، وأمروا بالصبر على المكاره، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار، جبنوا وكلَّوا ورجعوا القهقرى، فيقال لهم : متاعُ الدنيا قليل وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، وما تنالون من الله في جزاء مجاهدتكم خيرٌ وأبقى، ولا تُظلمون فتيلاً من مجاهدتكم لنفوسكم، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم، فلما جبُنتُم ورجعتم، كان جزاؤكم الحرمان، عما ظفر به أهل العرفان. وفي مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا
بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا
رضوا بالأماني، وابُتُلوا بحظُوظهم
وخاضوا بحارَ الحبّ، دعوى، فما ابتلّوا
فهُم في السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم
وما ظَعَنوا في السير عنه، وقد كلَّوا
ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم، فقال :