يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ولو نزَّلنا عليك﴾ يا محمد ﴿كتابًا﴾ مكتوبًا ﴿في قرطاس﴾ أي : رَقٍّ، فرأوه بأعينهم، ولمسوه بأيديهم، حتى لا يبقى فيه تزوير، لعاندوا، ولقال ﴿الذين كفروا منهم﴾ بعد ذلك :﴿إن هذا إلا سحر مبين﴾ ؛ تعنتًا وعنادًا، وتخصيص اللمس ؛ لأن التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم أن يقولوا :﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ [الحجر : ١٥]، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز، فإنه قد يُتَجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله :﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ﴾ [الجنّ : ٨].
ثم اقترحوا معجزة أخرى، ﴿وقالوا لولا أُنزل عليه ملك﴾ يكلمنا أنه نبي، ﴿أو يكون معه نذيرًا﴾ أو شهيدًا له بالرسالة، رُوِي أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك. قال تعالى :﴿ولو أنزلنا ملكًا﴾، كما طلبوا ﴿لقُضي الأمر﴾ بهلاكهم، فإنَّ سُنة الله جرَت بذلك فيمن قبلهم ؛ مهما اقترحوا آية،
٢٣٨
فظهرت ثم كفروا، عجَّل الله هلاكهم، ﴿ثم لا يُنظرون﴾ أي : لا يُمهلون بعد نزولها ساعة.
وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك ـ كما اقترحوا ـ فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليُطيقوا رؤيته، ﴿ولو جعلناه ملَكًا لجعلناه رجلاً﴾ ليتمكنوا من رؤيته، كما مثّل جبريل في صورة دِحية، فإن القوة البشرية لا تقوَى على رؤية الملائكة. وإنما رأوهم كذلك الأفرادُ من الأنبياء، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا : إنما هو بشر لا مَلك، فهذا قوله :﴿وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ أي : لخلَطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلاً مُلبسًا يطرق لهم إلى أن يُلبِسوا به على أنفسهم وضعفائهم ؛ فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته ؛ ليبقى سر الربوبية مَصُونًا، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها، حتى علمها ضرورة، وغيره يلبس الأمر عليه فيها. وبالله التوفيق.


الصفحة التالية
Icon