الكفار، فسأل أولاً، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه ؛ لأنَّ الكفار يُوافقون على ذلك ضرورة، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما في السماوات والأرض، وإنما يحسُن أن يكون السائلُ مجيبًا إذا عُلِم أن خَصمَه لا يخالفُه في الجواب الذي يقيم به الحجة عليه.
ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطُّف وإحسان فقال :﴿كتب على نفسه الرحمة﴾ ؛ ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام : ٥٤] كما في الآية الأخرى، والكتابةُ هنا عبارة عن القضاء السابق، وقد فسرها رسول الله ﷺ بقوله :" إنَّ اللهَ كتَبَ كتابًا قبلَ أن يَخلُقَ السَّماواتِ والإرضَ فَهُوَ عِندَه " وفيه :" أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي "، وفي رواية :" تَغّلِبُ غضبي ". قال البيضاوي :﴿كتب على نفسه الرحمة﴾ أي : التزمها تفضلاً وإحسانًا، والمراد بالرحمة : ما يعُمُّ الدارين، ومن ذلك : الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. هـ.
ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة، فقال : واللهِ ﴿ليجمعنّكم إلى يوم القيامة﴾ أي : ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيُجازي أهل التوبة والإيمان، ويعاقب أهل الشرك والكفران، ﴿لا ريب﴾ في ذلك اليوم، أو في ذلك الجمع، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان، ولذلك قال :﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ بتضييع رأس مالهم، وهو النظر الصحيح الموجِب للإيمان والتوحيد ﴿فهم لا يؤمنون﴾ حتى أدركهم الموت ؛ فلا خسران أعظم من ذلك. ودخلت الفاء في الخبر ؛ للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم ؛ فإن إبطال النظر، والانهماك في التقليد واتباع الوهم، أدَّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناع من الإيمان إلى الممات. فخسروا أولاً بتضييع النظر، فتسبب عنه عدم الإيمان.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٠