ولما تبرأ من عبادتها توجه إلى موجدها ومبدعها، فقال :﴿إني وجهت وجهي للذي فطر﴾ أي : أبدع ﴿السماوات والأرض﴾ حال كوني ﴿حنيفًا﴾ أي : مائلاً عن دينكم ﴿وما أنا من المشركين﴾ مثلكم. وإنما احتج بالأفول دون البزوغ، مع أنه تغير ؛ لأن الأفول أظهر في الدلالة ؛ لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب. ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال. وقيل : إن هذا الاستدلال والاحتجاج كان في حال طفولته قبل التكليف. فقد رُوِي أنه لما ولدته أمه في غار، خوفًا من نمرود ؛ إذ كان يقتل الأطفال ؛ لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي يُولد في هذا العصر، فكان يستدل بما رأى على توحيد ربه، وهو في الغار، وهذا ضعيف لأن قوله :﴿إني بريء مما تشركون﴾ يقتضي المحاججة والمخاصمة لقومه.
وقوله عليه السلام :﴿هذا ربي﴾ مع قوله :﴿إِنّي سَقِيمٌ﴾ [الصَّافات : ٨٩]، و ﴿فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء : ٦٣]، ليس بكذب ؛ للعصمة، وإنما هو تورية. وفي الحديث :" ليس بكاذبٍ من كاذَب ظالمًا، أو دفع ضررًا، أو رعى حقًا، أو حفظ قلبًا " وفي رواية أخرى :" ليس بكاذب، من قال خيرًا أو نواه " وأما اعتذاره في حديث الشفاعة ؛ فلهول المطلع، فيقع الحذر من أدنى شيء. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لمَّا كوشف إبراهيم بعالم الملكوت، رأى الله في الأشياء كلها، كما ورد في بعض الأثر :(ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه). وإنما قال :﴿لا أحب الآفلين﴾ ؛ حذرًا من الوقوف مع الحس دون شهود المعنى، إذ بحر المعاني متصل دائم ليس فيه تغيير ولا انتقال. وإنما تتغير الأواني دون المعاني، فشمس المعاني مشرقة على الدوام ليس لها مغيب ولا تغير ولا انتقال، ولذلك قيل :
طَلَعت شَمسُ مَن أُحِبُ بلَيلٍ
واستنَارَت فمَا تَلاها غُرُوبُ
إنَّ شَمسَ النَّهَارِ تَغرُبُ بالَّليلِ
وشَمسُ القُلوبِ ليس لهَا مَغِيبُ