الإشارة : درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين : الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين : المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال. وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول ﷺ بقوله " أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنه يَراك "، فقوله :" أن تعبد الله كأنك تراه " إشاره إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله :" فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة ـ التي هي مقام المقربين ـ فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين،
فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر.


الصفحة التالية
Icon