لهم في ذلك. ثم قال لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ :﴿فإن شهدوا﴾ بشيء من ذلك، ﴿فلا تشهد معهم﴾ أي : لا تصدقهم وبيِّن لهم فساده ؛ ﴿ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا﴾، والأصل أن يقول : ولا تتبع أهواءهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أن مكذب الآية متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقًا لها. ﴿و﴾ تتبع أيضًا ﴿الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ ؛ كعبدة الأوثان، ﴿وهم بربهم يعدلون﴾ ؛ يجعلون له عديلاً ومثيلاً. الإشارة : اعلم أن الحقّ جلّ جلاله كلف عباده في هذا الدار، بالقيام بوظيفتين : الشريعة والحقيقة، الشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، الشريعة تقتضي التكليف، والحقيقة تقتضي التعريف، الشريعة شهود الحكمة، والحقيقة شهود القدرة، وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسًا لها، ثم جعل سبحانه في القلب عينين، وتسمى البصيرة، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع، والأخرى تنظر للقرة فتقوم بالحقائق. فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعموا عين الشريعة، وهم أهل الكفر والزندقة، ولذلك قالوا :﴿لو شاء الله ما أشركنا﴾، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة، ثم وهم عوام المسلمين من أهل اليمن، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم.
وقوم أحبهم الله، ففتح لهم عين الحقيقة، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي، وهم الأولياء العارفون بالله، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا، ومن تمسك بهما كان صدِّيقًا، فمن رام تمسك بالشرائع، ولم تُسعفه الأقدار، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور، وإن كان عن كسل فهو مخذول، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان، والعياذ بالله.