يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿والذين آمنوا﴾ بالرسل، ﴿وعملوا﴾ الأعمال ﴿الصالحات﴾ على قدر طاقتهم، ﴿لا نكلِّف نفسًا إلا وُسعَها﴾ أي : ما تسعه طاقتها، فمن فعل ذلك فـ ﴿أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ﴾ أي : نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعدواة، ونطهرها منه، حتى لا يكون بينهم إلا التودد، فيصيرون أحبابًا وإخوانًا، وإما عبّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه، كأنه وقع ومضى، وكذلك ما يجيء بعدها، ثم وصف الجنة فقال :﴿تجري من تحتهم﴾ أي : من تحت قصورهم، ﴿الأنهارُ﴾ ؛ من عسل وخمر وماء ولبن ؛ زيادة في لذتهم وسرورهم، فالقصور مرتفعة في الهواء، والأنهار تجري تحتها.
﴿وقالوا﴾ حينئذٍ :﴿الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ أي : لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، ﴿وما كنا لنهتدي﴾ بأنفسنا ﴿لولا أن هدانا الله﴾ بتوفيقه وإرادته، ﴿لقد جاءت رُسلُ ربنا بالحق﴾ فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا، صار لهم عين اليقين في الآخرة، ﴿ونُودوا﴾ أي : نادتهم الملائكة، أو الحق تعالى :﴿أن تلكُم الجنةُ﴾ أي : هذه الجنة ﴿أُورِثتُموها﴾ أي : أُعطِيتموها ﴿بما كنتم تعملون﴾ أي : بسبب أعمالكم، وهذا باعتبار الشريعة، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه. ولذلك قال ﷺ :" لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ، قالوا : ولا أنت، قال : ولا أنا، إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ الله برحمَتِه " فالشريعة تنسب العمل للعبد، والحقيقة تعزله عنه، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله :﴿وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله﴾، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٣


الصفحة التالية
Icon