ثم قال : السماوات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات ؛ لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي : هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٩
قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية ـ قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق ـ جل جلاله ـ عن استيلاء هذه العظمة ـ التي هي أسرار الربوبية ـ على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله :" يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الآثارـ وهي العرش وما احتوى عليه ـ بمحيطات أفلاك الأنوار " وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار ـ من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية ؛ لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فافهم.
قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق ـ جل جلاله ـ يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله.
وقوله تعالى :﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾ : هو تقييد لقوله :﴿يختص برحمته من يشاء﴾ ؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحكم. والله تعالى أعلم.
٣٦٣


الصفحة التالية
Icon