ثم قال :﴿ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب﴾ أي : لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو : لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف. ﴿ولا تأكلوا أموالهم﴾ مضمومًا ﴿إلى أموالكم﴾ فتنفقونها معًا، مع أن اليتيم لا يأكل
كالكبير، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله، أو لمصلحة. ﴿إنه﴾ أي : الأكل، ﴿كان حُوبًا كبيرًا﴾ أي : إثمًا عظيمًا.
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث يَقبلون من وجدوه طيب الأخلاق، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية، ويقلبوا فيهم الأعيان، فيقبلون العاصي طائعًا، والكافر مؤمنًا، والغافل ذاكرًا، والشحيح سخيًّا، والخبيث طيبًا، والمسيء محسنًا، والجاهل عارفًا، وهكذا ؛ لما عندهم من الإكسير، وهي الخمرة الأزلية، أي : التي من شأنها أن تقلب الأعيان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه في وصفها :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥
تُهذبُ أخلاقَ النَّدامى فيَهْتَدي
بها لطريقِ العزمِ مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَنْ لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه
ويحلُمُ عند الغيْظِ مَنْ لا لهُ حِلم
وقوله :﴿ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم﴾ يعني : حتى تتحققوا بوصول الغني إلى قلوبهم، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم. والله تعالى أعلم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥