الإشارة : قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية، فأول المقامات : التوبة، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة، التي هي عمل الشريعة، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق، ولاحت لها أنوار التحقيق، حمدت الله وشكرته ؛ تقييداً لتلك النعمة، ثم تسيح فكرتها في ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت، ثم ترد إلى مراسم الشريعة، إذ منتهى الكمال : التزام الشرائع، فتركع وتسجد البشرية، أدباً في عالم الأشباح، ويركع القلب ويسجد في مسجد الحضرة في عالم الأرواح، فحينئذٍ تصلح للوعظ والتذكير، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهريْن ؛ لأهل التشريع، والباطنيْن ؛ لأهل التحقيق، فالأول يسمى وعظاً وتذكيراً، والثاني يسمى تربية وترقية، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود، ووفى بالعهود، فيبشر حينئذٍ بالسعادة العظمى والمقام الأسنا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٢
قال القشيري : لقوله تعالى :﴿السائحون﴾ أي : الصائمون، ولكن عن شهود غير الله، المُمْتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله، ويقال : السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الأعتبار ؛ طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغربها ؛ بالتفكر في جوانبها ومناكبها، والاستبدال بتغيُّرها على مُنْشِئتها، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها، ويسيحون بأسراهم في الملكوت، فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ ؛ بالتحقيق بشهود الحق. انتهى