جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٩
يقول الحق جل جلاله :﴿وما يتبع﴾ أكثر المشركين في اعتقادهم ﴿إلا ظَنّاً﴾ مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهوبة. والمراد بالأكثر الجميع، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر، ولم يرضى بالتقليد الصرف، ﴿إن الظن لا يغنى من الحق﴾ ؛ من علم التحقيق ﴿شيئاً﴾، أو ﴿من﴾ الاعتقاد ﴿الحق شيئاً﴾ من الإغناء. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. هـ. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو في الأصول، وأما الفروع فالظن فيها كاف. ﴿إن الله عليم بما يفعلون﴾ هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن النظر والاستدلال، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الناس على قسمين : أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء الصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح.
وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكوّن، فصاروا يستدلون بالله على وجوه غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم : لو كُلفت أن أرى غيره
١٦٠
لم أستطع فإنه لا غير معه حتى اشهده، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم :
مذْ عَرَفتُ الإِله لَم أَرَ غَيراً
وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ
مُذ تَجَمَّعَتُ ما خَشِيتُ افتراقاً
فَأَنا اليَومَ وَاصِلٌ مَجمُوعُ
وقال آخر :
عجبتُ لِمْنَ يَنبَغي عَلَيكَ شَهَادَةً
وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد