الإشارة : في صحيح البخاري قال ﷺ :" كَانَ اللَّهُ ولا شَيء مَعه، وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " الحديث. فأخبر ﷺ أن الحق جل جلاله كان في أزله لا شيء معه، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره، فهو الآن على ما كان عليه. وعن أبي رَزِينٍ : قلنا : يا رَسُولَ الله! أَيْنَ كَانَ ربُّنَا قَبْل أنْ يَخْلُقَ خَلقَهُ ؟ قال :" كَان في عَمَاءٍ ما فَوْقَه هَوَاءٌ، ومَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وخَلَق عَرشَه عَلَى المَاءِ ". والعماء هو : الخفاء، قال تعالى :﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ﴾ [القصص : ٦٦]، أي : خفيت. ويقال للسحاب عماء ؛ لأنه يخفى ما فيه. وقال الششتري : في المقاليد : كان في عمّى، ما فوقه هَوَاء، وما تحته هواء. هي الوحدة المُصْمتة
١٩٨
الصّمدية، البحر الطامس الذي هو الأزل والأبد، فلم يكن موجود غير الوجود هو هو. هـ.
والحاصل : أن الحق جل جلاله كا في سابق أزله ذاتاً مقدسة، لطيفة خفيفة عن العقول، نورانية متصفة بصفات الكمال، ليس معها رسوم ولا أشكال، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية ؛ إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس، فقال لها : كوني محمداً، فمن جهة حسها محصورة، ومن جهة معناها لا نهاية لها، متصلة ببحر المعاني الأزلي، الذي برزت منه، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة في الهواء. وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية ـ وهو تفسير للعماء المذكور قبلُ ـ فقال :
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطفٌ ولاَ هواً
ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسمٌ
تَقَدَّمَ كلَّ الكائنات حديثُها
قديماً ولا شكلٌ هناك، ولا رَسْم
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٧
وقامت بها الأشياءُ ثمَّ لحكمَةِ
بها احتَجَبَت عن كلّ من لا له فَهْمُ