ثم وصف التوراة بقوله :﴿إماماً﴾. أي : مؤتماً به في الدين، لأجله، ﴿ورحمةً﴾ على المنزل عليهم. ﴿أولئك﴾ أي : من كان على بينة من ربه، ﴿يُؤمنون به﴾ أي : بالقرآن، ﴿ومن يكفرْ به من الأحزاب﴾ : كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله ﷺ، ﴿فالنارُ موعده﴾ يدخلها لا محالة، ﴿فلا تكُ في مريةٍ﴾ ؛ شك ﴿منه﴾ أي : من
٢٠٤
ذلك الموعد، أو القرآن، ﴿إنه الحقُ من ربك﴾ الثابت وقوعه، ﴿ولكن أكثرَ الناس لا يؤمنون﴾ ؛ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠٤
الإشارة : لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما : التوبة النصوح، والثاني : الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان بينة من ربه. وهي درجات ؛ أولها : بينة ناشئة عن صحيح النظر ولاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم : أهل الدليل والبرهان. وثانيها : بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم : العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها : بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم ؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله :
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ
والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ
لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم
فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ
والنَّاسُ في غفلَةٍ عَمَّا يَراد بِهِم
فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ