﴿قال ربّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه﴾ من فعل الفاحشة ؛ بالنظر إلى العاقبة. وإن كان مما تشتهيه النفس. لكن رُبَّ شَهوةَ ساعة أورَثَتْ حُزْناً طويلاً. قيل : إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا، وإنما كان اللائق به أن يسأل الله العافية، فالاختيار لنفسه أوقعه في السجن، ولو ترك الاختيار لكان معصوماً من غير امتحان بالسجن، كما كان معصوماً وقت المراودة، ﴿وإلا تَصْرِف عني﴾ : وإن لم تصرف عني ﴿كيدَهُنَّ﴾ من تحبيب ذلك إليَّ، وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة، ﴿أَصْبُ إليهن﴾ ؛ أًمِلْ إلى جانبهن بطبعي ومقتضى شهوتي، ﴿وأكن من الجاهلين﴾ ؛ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل ما هو قبيح. أو من الذين لا يعملون بما يعلمون، فإنهم جهال، وكلامه هذا : تضرع إلى الله تعالى، واستغاثة به.
﴿فاستجاب له ربه﴾ : أجاب دعاءه الذي تضمنه كلامه، ﴿فصرفَ عنه كيدهنَّ﴾ حيث ثبته على العصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن، وآثرها على اللذة الفانية ؛ ﴿إنه هو السميعُ﴾ لدعاء الملتجئين إليه، ﴿العليم﴾ بإخلاصهم أو بما يصلح بهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٤
الإشارة : الحب إذا كان على ظاهر القلب، ولم يخرق شغافه، كان العبد مع دنياه، وآخرته، بين ذكر، وغفلة. فإذا دخل سويداء القلب، وخرق شغافه نسي العبد دنياه وأخراه، وغاب عن نفسه وهواه، وضل في محبة مولاه. ولذلك قيل لعاشقة يوسف :﴿إنا لنراها في ضلال مبين﴾ أي : في استغراق في المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها. ومنه قوله تعالى :﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا﴾ [الضحى : ٧] أي : وجدك ضالاً في محبته، فهداك إلى حضرى مشاهدته ومقام قربه، فكان قاب قوسين أو أدنى. وعلامة ودخول المحبة شغاف القلب أربعة أشياء : الاستيحاش، والإيناس، وذكر الحبيب مع الأنفاس، وحضوره مع الحواضر والوسواس. وأنشدوا :
تَاللَّهِ مَا طَلَعت شَمسٌ ولا غربت
إلاَّ وَذكْرُكَ مَقرُونٌ بِأَنفَاسِي


الصفحة التالية
Icon