قال لا يأتيكما طعامُ تُرزِقَانِه} في النوم، ﴿إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكُما﴾ تأويله في الدنيا. أو : لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة ؛ لتأكلاه إلا أخبرتكما به، ما هو ؟ وما لونه ؟ وما صفته ؟ وكم هو ؟ قبل أن يأتيكما، إخباراً بالغيب، فيأتيهما كذلك ؛ معجزة. وصَفَ نفسَه بكثرة العلم والمكاشفة ؛ ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد.
ثم قال لهما :﴿ذلكما مما علمني ربي﴾ بالوحي والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. رُوي أنهما قالا له : من أين لك هذا العلم، وأنت لست بكاهن ولا منجم ؟ فقال لهما :﴿ذلكما مما علمني ربي إني تركتُ مِلّةََ﴾ ؛ طريقة ﴿قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون﴾ أي : علمني ذلك لأني تركت ملة أهلِ الكفر، ﴿واتبعتُ ملة آبائي إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ﴾، وإنما قال ذلك ؛ تمهيداً للدعوة، وإظهاراً أنه من بيت النبوة ؛ لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به. ﴿ماكان لنا﴾ : ما صح لنا معشر الأنبياء ﴿أن نُشرك بالله من شيء﴾ أيّ شرك كان، ﴿ذلك﴾ التوحيد ﴿من فضل الله علينا﴾ بالوحي ﴿وعلى الناس﴾ ببعثنا إليهم، وإرشادنا إياهم وتثبيتهم عليه، ﴿ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ هذا الفضل ؛ فيُعرضون عنه. أو من فضل الله علينا بالوحي والإلهام، وعلى الناس بنصب الدلائل وإنزال الآيات. ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها، ولا يستدلون بها، فيوحدون خالقها، فهم كمن كفر النعمة ولم يشكرها.
الإشارة : جرت عادة الحق ـ تعالى ـ في خلقه أنه لا يأتي الامتكان إلا بعد الامتحان، ولا يأتي السلوان إلا بعد الأشجان، ولا يأتي العز إلا بعد الذل، ولا يأتي الوجد إلا بعد الفقد. فبقدر ما يضيق على البشرية تتسع ميادين الروحانية، وبقدر ما تسجن النفس وتحبس عن هواها، تتسع الروح في مشاهدة مولاها.
٢٧٨