﴿لعلهم يعرفُونها﴾ أي : لعلهم يعرفون هذه اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم، فيرجعون إلينا. فليس الضمير للبضاعة ؛ لأن ميز البضاعة لا يعبر عنه بلعل، وإنما المعنى : لعلهم يعرفون لها يداً وتكرمة ويرون حقها ﴿إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يَرْجِعُون﴾، أي :
٢٨٩
لعل معرفتهم بهذه الكرامة تدعوهم إلى الرجوع. وقصد بذلك استمالتهم والإحسان إليهم. أو : لعلهم يعرفون البضاعة، ولا يستحلون متاعنا فيرجعون به إلينا، وضعف هذا ابن عطية : فقال : وقيل : قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن. وهذا ضعيف من وجوه. ثم قال : ولسرورهم بالضاعة، وقولهم :﴿هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا﴾، يكشف أن يوسف لم يقصد هذا، وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم كما تقدم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨٨
الإشارة : قوله :﴿فعرفهم وهم له منكرون﴾، كذلك أهل الخصوصية من أهل مقام الإحسان، يعرفون مقامات أهل الإيمان ومراتبهم، وأهل مقام الإيمان ينكرونهم ولا يعرفون مقامهم، كما قال القائل :
تَرَكْنَا البُحُورَ الزَّجِرَاتِ وَرَاءنَا
فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي النَّاسُ أين تَوَجَّهْنَا
فكلما علا بالولي المقام خفي عن الأنام، ولا يعرف مراتب الرجال إلا من دخل معهم، وشرب مشربهم، وإلا فهو جاهل بهم. وقوله تعالى :﴿فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي﴾ : كذلك الحق ـ جل جلاله ـ يقول لعبده : ائتني بقلبك، فإن لم تأتني به فلا أقبل طاعتك، ولا تقرب إلى حضرتي. قال النبي صلى الله عليه السلام :" إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صَُوَرِكم ولاَ إلى أَعْمَالِكُمْ، وَإَنَّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم ونيَّاتِكُم " أو كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وقوله تعالى :﴿سنراود عنه أباه﴾ : كذلك ينبغي للعبد أن يحتال على قلبه حتى يرده إلى ربه ؛ وذلك بقطع العلائق، والفرار من الشواغل والعوائق، حتى تشرق عليه أنوار الحقائق.