ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله :﴿الذين يستحبون الحياةَ الدنيا﴾ ؛ يختارونها ﴿على الآخرةِ﴾، فإنَّ من أحب شيئاً اختاره وطلبه، ﴿ويصُدُّون﴾ الناس ﴿عن سبيل الله﴾ ؛ بتعويقهم عن الإيمان، ﴿ويبغونها عوجاً﴾ أي : ويبغون لها زيغاً، ونُكُوباً عن الحق، ليتوصلوا للقدح فيها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، ﴿أولئك في ضلال بعيد﴾ أي : في تلف بعيد عن الحق ؛ بحيث ضلوا عن الحق، وبعدوا عنه بمراحل. والبُعد في الحقيقة : للضال، ووُصف به فعله ؛ للمبالغة.
الإشارة : قد أخرج ﷺ أمته من ظلمات عديدة إلى نوار متعددة ؛ أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون، وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا التراقي في شهود الأسرار ابداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.


الصفحة التالية
Icon