وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنه له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون. أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق ببعيد. وبالله التوفيق.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٣
٣٥٤
يقول الحق جل جلاله :﴿وما أرسلنا من رسولٍ﴾ قبلك ﴿إلا بلسانِ قومه﴾، وأنت بعثناك بلسان قومك. وإنما قال : بلسان قومه، ولم يقل بلسان أمته ؛ لأن الأمة قد تكون أوسع من قومه، كما في الحق نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد بُعث إلى العرب والعجم والجن والإنس، فقومه الذين يفهمون عنه : يُتَرْجُمِونَ إلى من لا يفهم، فتقوم الحجة عليهم. وكذلك إعجاز القرآن يُدركه أهل الفصاحة والبلاغة، فإذا وقع العجز عن معارضته منهم قامت الحجة على غيرهم، كما قامت الحجة في معجزة موسى عليه السلام بعجز السحرة، وفي معجزة عيسى بعجز الأطباء.
ثم بيَّن الحكمة، في كون الداعي لا يكون إلا بلسان قومه، بقوله :﴿ليُبيّن لهم﴾ ما أُمروا به ؛ فيفهمونه عنه بسرعة، ثم ينقلونه ويترجمونه لغيرهم، فتقوم الحجة عليهم ولذلك أُمِرَ النبي ﷺ بإنذار عشيرته أولاً ؛ فإذا فهموا عنه بلّغوا إلى غيرهم. قال البيضاوي : ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز، لكن ادى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها، والعلوم المتشبعة منها، وما في إتعاب القرائح وكد النفس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. هـ.