ولمّا كلفهم بهذا في أول الإسلام، وشقَّ ذلك عليهم، خفف عنهم فقال :﴿الآن خففَ الله عنكم وعَلِمَ أن فيكم ضعفاً﴾ ؛ فلا يقاوم الواحدُ منكم العشرة، ولا المائةُ الألفَ، ﴿فإن يكن منكم مائة صابرة يَغْلِبُوا مائتين، وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله﴾ ؛ أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين. وقيل : كان فيهم قلة، فلما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة ؛ للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد، والضعف : ضعف البدن، لا ضعف القلب.
قال بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ : لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار، وبقي العشر. ولذلك قال تعالى هنا :﴿والله مع الصابرين﴾ أي : بالنصر والمعونة، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده ؟.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣
الإشارة : ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم، الذي هو الجهاد الأكبر، وإنما كان أكبر ؛ لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله، بخلاف النفس فإنها جاءت تحت الرماية خفية عدو حبيب، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها، ويهونوا لهم شأنها، فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت، وسهل علاجها، وإذا خِفت منها، وسوَّفت لها، طالت عليك وملكتك، ولا بد في جهادها من شيخ يريك
٤٤
مساوئها، ويعينك بهمته على قتلها، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها، وهي المعرفة بسيدها وخالقها. والله تعالى أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣