ثم قال تعالى لهم :﴿إِنْ أحسنتم﴾ بفعل الطاعة والعمل الصالح، ﴿أَحْسَنْتُمْ لأنفسكم﴾ ؛ لأن ثوابه لها، ﴿وإِن أسأتم فلها﴾ ؛ فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. ﴿فإِذا جاء وعدُ الآخرة﴾ أي : وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد ﴿ليَسُؤوا وجوهكم﴾، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله :﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [المُلك : ٢٧] ﴿وليدخلوا المسجد﴾ ؛ بيت المقدس ﴿كما دخلوه أول مرة وليُتبروا﴾ ؛ وليُهلكوا ﴿ما عَلوا﴾ عليه ﴿تتبيرًا﴾ ؛ إهلاكًا، أو مدة علوهم. قال البيضاوي : وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه " حَرْدُون "، وقيل :" حَرْدوس "، قيل : دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا : دم قربان لم يُقبل منا. فقال : ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا : دم يحيى، فقال : لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال : يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. هـ.
وقال السهيلي في كتاب " التعريف والإعلام " : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم " بختنصر "، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة : فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل : بختنصر، وهذا لا يصح ؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. هـ. وقول الجلال السيوطي : وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح ؛ لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.