ثم أمر ببرهما، فقال :﴿إِما يبلغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما﴾ أي : مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، ﴿فلا تقلْ لهما أُفٍّ﴾ أي : فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء ؛ قياسًا بطريق الأخرى. وقال في الإحياء : الأُفّ : وسخ الظفر، والتف : وسخ الأذن، أي : لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل : لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. هـ.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٥
ولا تنهرهما﴾ ؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. ﴿وقل لهما قولاً كريمًا﴾ ؛ جميلاً لينًا لا غلظ فيه، ﴿واخفض لهما جناحَ الذل﴾ ؛ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه ؛ مبالغة ؛ فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك ﴿مِنَ الرحمة﴾ أي : من إفراط الرحمة لهما والرقة والشفقة عليهما. ﴿وقل ربِّ ارحمهما﴾ أي : وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين ؛ لأن من الرحمة
٨٦
أن يهديهما للإسلام، فقل اللهم ارحمهما ﴿كما ربياني صغيرًا﴾ أي : رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب ؛ على أنه نعت لمصدر محذوف، أي : رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل : رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله :﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة : ١٩٨].