الرحمن، حال بينهم وبين كيد الشيطان، وقال لهم : ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة ؛ لتبتغوا الوصول إلى حضرة الأحدية، إنه كان بكم رحيمًا. ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمن، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٧
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ولقد كرَّمنا بني آدم﴾ قاطبة، برهم وفاجرهم، أي : كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته : ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه ؛ من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله ؛ لأنه يطأ بها القاذورات ؛ فسقطت حرمتها.