الإشارة : قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى ؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا، فتكلم على قدر فهمه. فقال بعضهم : حقيقة الروح : جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث :" من عرف نفسه فقد عرف ربّه " قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه، وهو : أن الله، سبحانه، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية، لطيفة لاهوتية، في كثيفة ناسوتية، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه :
الأول : أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني : لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا ؛ علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء : ٢٢]، الثالث : لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته ؛ علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته. الرابع : لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. الخامس : لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء ؛ علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة ؛ لأنه منزه عن ذلك. السادس : لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه ؛ علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال. السابع : لَمَّا
١٢١


الصفحة التالية
Icon