المنكر كونه من عند الله منهما، لا لأنَّ غيرهما قادر على المعارضة. وإنما أظهر في محل الإضمار، ولم يقل : لا يأتون به ؛ لئلا يتوهم أن له مثلاً معينًا، وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثَلٍ مَّا، أي : لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة، وفيهم العرب العاربة، أرباب البراعة والبيان. فلا يقدرون على الإتيان بمثله ﴿ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا﴾ أي : ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا. وهو عطف على مقدر، أي : لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض، ولو كان... الخ. ومحله النصب على الحالية، أي : لا يأتون بمثله على كل حال مفروض، ولو على هذه الحالة.
ثم قال تعالى :﴿ولقد صَرَّفنا﴾ أي : كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة، توجب زيادة تقرير وبيان، ووكادة رسوخ واطمئنان، ﴿للناس في هذا القرآن﴾ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة، ﴿من كل مَثَلٍ﴾ ؛ من كل معنى بديع، هو، في الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس، كالمثل ؛ ليتلقوه بالقبول، أو بيَّنَّا لهم كل شيء محتاجون إليه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من المعاني والعلوم، ﴿فَأَبَى أكثرُ الناس إِلا كُفورًا﴾ ؛ إلا جحودًا وامتناعًا من قبوله. وفيه من المبالغة ما ليس في نفي مطلق الإيمان ؛ لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود، وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء. وبالله التوفيق.
الإشارة : كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية، فإن القلوب بيد الله، يُقلبها كيف يشاء. والخصوصية أمانة مودعة في القلوب، فإذا شاء رفعها رفَعها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره. وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء، ويشدون أيديهم على الأدب ؛ لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية، والعياذ بالله.


الصفحة التالية
Icon