قلت : ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعًا، وكلفهم بتسع، شكرًا لما أظهر لهم، فأخبر - عليه الصلاة والسلام - السائل عما كلفهم به ؛ لأنه أهم، وسكت عما أظهر لهم ؛ لأنه معلوم. وإنما قبَّل السائلُ يده ؛ لموافقته لما في التوراة، وقد علم أنه ما علمه رسول الله ﷺ إلا بالوحي، وقوله عليه الصلاة والسلام :" وعليكم، خاصة اليهود، ألا تعدوا "، حكم مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غيَّر فيه سياق الكلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٠
قال تعالى :﴿فسلْ بني إسرائيل﴾ أي : سل، يا محمد، بني إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى ؛ لتزداد يقينا وطمأنينة، أو : ليظهر صدقك لعامة الناس، أو : قلنا لموسى : سل بني إسرائيل مِن فرعون، أي : اطلبهم منه ؛ ليرسلَهم معك، أو سل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا : قراءة رسول الله ﷺ " فَسَال " ؛ على صيغة الماضي، بغير همز، وهي لغة قريش. ﴿إِذْ جاءهم﴾ أي : آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة، أو قلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم بالوحي. ﴿فقال له فرعونُ﴾ حين أظهر له ما آتيناه من الآيات، وبلغة ما أرسل به :﴿إِني لأظنك يا موسى مسحورًا﴾ أي : سُحرت فتخبط عقلك.
﴿قال﴾ له موسى :﴿لقد علمتَ﴾ يا فرعون، ﴿ما أنزل هؤلاء﴾ الآيات التي ظهرت على يدي ﴿إِلا ربُّ السماوات والأرض﴾ ؛ خالقهما ومدبرهما، ولا يقدر عليها غيره، حال كونها ﴿بصائرَ﴾ ؛ بينات تبصرك صدقي، ولكنك تعاند وتكابر، وقد استيقنتها أنفسكم، فجحدتم ؛ ظلمًا وعلوًا، ﴿وإِني لأظنك يا فرعونُ مثبورًا﴾ أي : مهلكًا مقطوعًا دابرك، أو مغلوبًا مقهورًا، أو مصروفًا عن الخير. قابل موسى عليه السلام قول فرعون :﴿إِني لأظنك يا موسى مسحورًا﴾ بقوله :﴿وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا﴾ ؛ وشتان ما بين الظنين ؛ ظنُّ فرعون إفك مبين، وظن موسى حق اليقين ؛ لأنه بوحي من رب العالمين، أو من تظاهر أماراته.


الصفحة التالية
Icon