فلما جاوزا مجمع البحرين، الذي جُعل موعدًا للملاقاة، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع، فـ ﴿قال لفتاه آتنا غداءنا﴾ أي : ما نتغدى به، وهو الحوت، كما يُنبئ عنه الجواب، ﴿لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا﴾ : تعبًا وإعياء. قيل : لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك، ويدل عليه الإتيان بالإشارة، وجملة ﴿لقد لقينا﴾ : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٦
قال﴾
فتاه عليه السلام :﴿أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة﴾ أي : التجأنا إليها ونِمنا عندها، ﴿فإني نسيتُ الحوت﴾ أي : أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، ﴿وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ﴾ بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، ﴿أن أذكره﴾، ونسبته للشيطان ؛ هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله. وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع
١٧٧
موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.
﴿قلت﴾ : والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب ؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك :" حفت الجنة بالمكاره ".


الصفحة التالية
Icon