يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿فلما اعتزلهم﴾ أي : اعتزل إبراهيمُ قومَه ﴿وما يعبدون من دون الله﴾ بأن خرج من " كوثى " بأرض العراق، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها، ﴿وهبنا له إسحاق﴾ ولده ﴿ويعقوبَ﴾ حفيده، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر، التي وُهبت لزوجه سارة، ثم وهبتها له، فوُلد له منها إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق، ثم نشأ عنه يعقوب، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه في بلده، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه، فكانت النعمة بهما أعظم.
٢٢٨
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ها هنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب، فإنهما شجرة الأنبياء، لهما أولاد وأحفاد، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير. ﴿وكُلاًّ جعلنا نبيًّا﴾ أي : وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً.
﴿ووهبنا لهم من رحمتنا﴾ هي النبوة، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء ؛ للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل : الرحمة : المال والأولاد، وما بسط لهم من سعة الرزق، وقيل : إنزال الكتاب، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي. ﴿وجعلنا لهم لسانَ صدقٍ عليًّا﴾ : رفيعًا في أهل الأديان، فكل أهل دين يتلونهم، ويثنُون عليهم، ويفتخرون بهم ؛ استجابة لدعوته بقوله :﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾ [الشُّعَرَاء : ٨٤].
والمراد باللسان : ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلو ؛ للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتبدل الدول، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم.